خرّج الشيخان في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم و أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ).
لا شك أن الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين من غير موت، وخلق دارا معجلة للأعمال وجعل فيها موتا وحياة و ابتلى عباده فيها بما أمرهم به ونهاهم عنه وكلفهم فيها الإيمان بالغيب ومنه : الإيمان بالجزاء و الدارين المخلوقتين له، وأنزل بذلك الكتب وأرسل به الرسل وأقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به وأقام علامات وأمارات تدل على وجود داري الجزاء فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم والأخرى دار عذاب محض لايشوبه راحة.
وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة و ما فيها من الألم يذكر بألم النار، وجعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية فمنها ما يذكر بالجنة من زمان ومكان، أما الأماكن فخلق الله بعض البلدان و غيرها فيها من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا مايذكر بنعيم الجنة، وأما الأزمان فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة وطيبها وكأوقات الأسحار فإن بردها يذكر ببرد الجنة .
ومنها ما يذكر بالنار فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه وما فيها من الآلام والعقوبات من أماكن وأزمان وأجسام و غير ذلك
أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد فبردها يذكر بزمهرير جهنم وحرها يذكر بحر جهنم وسمومها وبعض البقاع يذكر بالنار كالحمام، قال أبو هريرة : نعم البيت الحمام يدخله المؤمن فيزيل به الدرن و يستعيذ بالله فيه من النار. وكان السلف يذكرون النار بدخول الحمام فيحدث لهم ذلك عبادة، وكان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول : يا بر يا رحيم منّ علينا وقنا عذاب السموم، وصب بعض الصالحين على رأسه ماء من الحمام فوجده شديد الحر فبكى وقال : ذكرت قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } .
وكل ما في الدنيا يدل على صانعه و يذكر به و يدل على صفاته فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم خالقه وفضله وإحسانه وجوده ولطفه، وما فيها من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه وبطشه وقهره وانتقامه، واختلاف أحوال الدنيا من حر وبرد وليل ونهار وغير ذلك يدل على انقضائها وزوالها .
وقال خليفة العبدي : لو أن الله لم يعبد إلا عن رؤية ماعبده أحد، ولكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء وملأ كل شيء ومحا سلطان النهار وتفكروا في مجيء هذا النهار إذا جاء فملأ كل شيء وطبق كل شيء ومحا سلطان الليل وتفكروا في { السحاب المسخر بين السماء و الأرض } وتفكروا في { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } وتفكروا في مجيء الشتاء والصيف فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى أيقنت قلوبهم و حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته، مارأى العارفون شيئا من الدنيا إلا تذكروا به ماوعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير وعافية .
وأما الأزمان فشدة الحر والبرد يذكر بما في جهنم من الحر والزمهرير وقد دل هذا الحديث الصحيح على : أن ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت، قال الحسن : كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و كل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم، وفي الحديث الصحيح أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ) متفق عليه .
وأبواب النار مغلقة و تفتح أحيانا فتفتح أبوابها كلها عند الظهيرة و لذلك يشتد الحر حينئذ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنم
وأما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة منها الشمس عند اشتداد حرها وقد روي أنها خلقت من النار وتعود إليها .
وأما البروز للشمس تعبدا بذلك فغير مشروع فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي اسرائيل لما رآه قائما في الشمس فأمره أن يجلس و يستظل و كان نذر أن يقوم في الشمس مع الصوم فأمره أن يتم صومه فقط . رواه البخاري .
وإنما يشرع البروز للشمس للمحرم كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمحرم رآه قد استظل : اضح لمن أحرمت له أي ابرز إلى الضحاء و هو حر الشمس كان بعضهم إذا أحرم لم يستظل فقيل له لو أخذت بالرخصة فأنشد :
ضحيت له كي أستظل بظله * إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
فواأسفا إن كان سعيك خائبا * ووا أسفا إن كان حظك ناقصـا
ومما يؤمر بالصبر فيه على حر الشمس النفر للجهاد في الصيف كما قال تعالى عن المنافقين : { وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } و كذلك في المشي إلى المساجد للجمع والجماعات وشهود الجنائز و نحوها من الطاعات والجلوس في الشمس لانتظار ذلك حيث لايوجد ظل .
وخرج رجل من السلف إلى الجمعة فوجد الناس قد سبقوه إلى الظل فقعد في الشمس فناداه رجل من الظل أن يدخل إليه فأبى أن يتخطى الناس لذلك ثم تلا : { و اصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور }، وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار قاله ابن مسعود وتلا قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا }.
وينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة و يزاد في حرها و ينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار فإنه لاقوة لأحد عليها ولا صبر قال قتادة : و قد ذكر شراب أهل جهنم و هو ماء يسيل من صديدهم من الجلد و اللحم فقال : هل لكم بهذا يدان أم لكم عليه صبر طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله و رسوله
نسيت لظى عند ارتكانك للهوى * وأنت توقى حر شمس الهواجر
كأنك لم تدفن حميما ولم تكـن * له في سياق الموت يوما بحاضر
ورأى عمر بن عبد العزيز قوما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل و توقوا الغبار فبكى ثم أنشد :
من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبـار يخاف الشين و الشعثا
و يألف الظل كي يبقى بشاشــته * فسوف يسكن يوما راغما جدثا
في ظل مقفرة غبـــراء مظلمة * يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهزي بجهاز تبــلغـــين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
من ( لطائف المعارف ) لابن رجب الحنبلي باختصار وإضافة